حين وصفت لي المكان لم أتخيل أن يكون مثل مغارة علي بابا.. كتل خرسانية مترامية الاطراف .. عدد مهول من الكباري العالية التي تربط بين دفتي مكانين لا ملامح لهما..
لا يمكن أبدا أبدا أن تصف لأحد أين تقف.. فلا يوجد لافتة أو معلم اللهم إلا من شجرة تقف علي استحياء ولافتة هدء السرعة!
كان لدي طموحات عالية حين وصلت القاهرة، لا أعرف أهي أقرب لخيالات شخص يعيش بخيال طفولي.. حين نتصور أن الحياة تمطر الجيلي .. والشوارع تكتسي باللون الوردي والأشجار كحلوى القطن اللذيذة!
نحن نعرف المدن من الصور وحكايات العابرين التي تمتزح فيها خيالاتهم بواقع المكان.. لكن المكان لا وجود له.. إنه قطعة مبهمة لا روح لها.. يجب أن يمر عليها شخص.. ويلتقمها قلب أنسان أو تأطرها العين..
لكن المكان الحقيقي ما هو إلا رمال تأخذ أشكالا متفرقة.. ناعمة أحيانا.. أو خرسانية أحيانا أخرى.. المهم أنها حبات رمال.. رمال فقط..
وفي هذه البقعة الغريبة من القاهرة وعلي جانب طريق سريع يصل بين محافظات متفرقة نزلت من سيارة أجرة أخذت أجرا مبالغا فيه .. وقفت محاولا ايجاد مظلة أحتمي بها من شمس حارقة في ديسمبر.. وبردوة لا اعرف من أين مصدرها.. كأنها تخرج من مسام الأرض.. تلامس قدميَ وتتسلل الى كل خلية في حسدي.. فبتت أقف برأسي يذوب حراً وجسد يرتعد بردا!
وقفت انتظر في طريق للسيارات يفصل بين منطقتين سكنتين لهما نفس الطابع.. كأن الطريق شق المباني كما شقت عصا موسى البحر.. أو كأنه وجد هنا بمحض الصدفة!
العمارات تشبه الرمال أيضا بألوانها المتدرجة من البرتقالي للبني للأصفر ..
شرفات متطابقة.. كأن كل السكان أخذوا علي انفسهم عهدا بألا يضعوا أي شيء يعبر عن هوياتهم أو ألونهم المفضلة!!!
لماذا نرى بهجة في تنوع الألوان واختلافها؟ أعتقد أن للسيميترية جمال أيضا إذا ما كانت علي مساحة واسعة..فجمال السماء أنها زرقاء. فقط.. وجمال البحر أنه أزرق وأخضر وأسود..
المهم انه متسق وله لون واحد..
مرت سيارة خاطفة أمامي الآن.. يبدو أنني سأنتظر طويلا..
بحثت بعيني فلم أجد مكانا ارتكن فيه.. باتت لي محطة بنزين من بعيد.. أعشق محطات البنزين..لاأعرف لماذا تستهويني حتى قبل أن أملك سيارة.. كنت أشعر أنها كاستراحة المحارب للتزود بالوقود والقهوة والوقت..
لو ملكت حبيبة لمنحتها قبلة داخل كل محطة بنزين أقف فيها علي الطرق النائية.. كم عشقت أن أجوب طرقا وعرة وبرية مع حبيبتي..
أي واحدة؟
واحدة فقط.. لم يكن قبلها ولا بعدها أحد!
قررت المشي للمحطة، ولكن بسذاجة غريب لم أحسب حساب قرار عبور الشارع.. بدت لي الآخرة تلوح علي الجانب الاخر من الطريٌ.. ميف لي أن أعبر طريقا تقطعه سيارات فارهة تتخطى سرعتها المائة وستين كيلومترا في الساعة؟
مرت إحدى السيارات من جنبي.. كدت أن أطير!
وقفت حائرا وبدت لي علامة ماكدونالدر ودانكن دوناتس تلوح من بعيد كإمراة في ملابس مثيرة تغوي شابا قرويا.. كنت أنا هذا القروي وبدت لي القهوة مثيرة جدا من بعيد..لا أطول رائحتها ولا مذاقها.. لماذا تبدو الأمور أكثر روعة من بعيد؟
لماذا تبدو مغرية.. ثرية..
كدت أموت حرفيا لأشرب فنجانا من القهوة.. لكن بحسابات الانسان العاقل كان من المستحيل عبور الجانب الآخر من الطريق .
بدت لي القاهرة- أو لان أكثر دقة- هذا الحي وهذه المنطقة السكنية بالذات وكأنها وقعت من القضاء الى قلب الصحراء .. كأنها نبتت خصيصا لبشر يعيشون داخل جدران ولا يملكون أدنى رغبة للخروج أو التريض أو حتى للمشية البريئة علي جانب الطريق.. كأن المدرينة برمتها خلقت لأصحاب السيارات فقط، وكأن البشر اختاروا الاختباء كالفئران داخل قوالب خراسانية خوفا من حرارة السماء وبرد الأرض..
ترى، كيف هي درجة حرارة البيوت داخل هذه المباني الكثيرة؟
اخترق اذني صوت سيارة مرت بجانبي.. عدت للورا بغريزة البقاء .. لم استوعب في البداية أن السيارة تضيء اشاراتها الخفية، ثم وقفت علي بعد خطوات مني، لم انتبه لكن عيني التقطتا أرقاما انجليزية صيرة علي لوحة السيارة، عادت ذاكرتي تدريجيا فلمحت يدا تخرج من الشباك الأمامي وتشير لي أن أتقدم نحو السائق وتبع الإشارة صوت آلة تنبيه
أخرجت مفكرة سوداء من جيبي وقرأت حروف سيارة صديقتي المصرية، إنها نفس حروف السيارة التي امامي .. أخيرا جاء مركل انقاذي من هذا الشارع الموحش، ترجلت بحذر للباب المجاور للسائق وفتحت الباب..
استقبلتني امرأة مصرية ناعمة ودافئة، كانت بشعر أسود قصير ونهد لم تخطئ عيناي الطريق إليه، فقد كان بارزا، جميلا، شامخا.. يتناسب بدقة بالغة مع انسدال خصرها وارتفاع عنقها .. بدت مذهلة كمنحوتة تحولت لبشر..
تسللت رائحة القهوة الى أنفي كأنها تعرف مسبقا كل نقاط ضعفي
جلست بجانب ابتسامتها فنسيت العمارات الصفراء، والشوارع المرعبة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق