وصل القاهرة وحيدا، لم يتخيل أن يكون زحام فارغ من ملامح أمه وأبيه وشقيقيه هو اول استقبال له بعد غربة دامت خمس سنوات.. لم يتمالك قدميه حين سمع بوفاة جدته..
كان يمنى نفسه طوال الغربة برائحة القراقيش المخبوزة في فرنها الأثري، أو قالب من العجة السحرية التي أحب بسببها كل الوجبات النباتية التي تضفي عليها طقسا فريدا بعيدان الفلفل الحار والبصل الأخضر والطحينة..
في اوقات كثيرة كان يشم رائحة طعامها حتى أكثر من طعام امه، ربنا لأنه عاش في منزلها نصف حياته تقريبا.. فقد كانت جدته هي أول محطة استقلالية في حياته.. حين كان يبيت معها بحكم قرب منزل والده من مزلها، فيساعدها علي اطعام الدجاج في حديثتها الاستثنائية وسط حي سكني عصري.. وي>هب معها للسوق لشراء كل ما لذ وطاب للأحفاد الذين يحضرون مساء كل خميس او علي زيارات متفرقة خلال الأسبوع..
كان يلازمها أغلب الوقت في أيام تعبها فتطلب منه الأم أن يتناوب معها علي المبيت في بيتها لرعايتها في ليال المرض التفرقة، ومع الوقت بدأ يستدرج تفاصيله من بيت والده لبيتها حتى شغر غرفة كاملة أصبحت غرفته.. ومع الوقت أيضا أصبح كل اصدقاءه يزورنه في منزل الجدة.. ويقفون علي ناصية الشارع بعد دروس الثانوية العامة علي بعد خطوات من منزل الجدة.. ويلاقي اصدقاءه في صالون منزل الجدة.. أصبح منزل الجدة منزله وسهره ليال الامتحانات الطويلة في غرفة الصالون الملحقة بالمنزل بباب منفصل ..
لماذا لم يكتب الشعراء معلقات في وصف ما تفعله ذاكرة أنوفنا؟ تلك الذاكرة التي ترتبط برطوبة المكان، ترتبط برائحة البطاطس المقلية وسندوتشات الطعمية بالطماطم في خبز ساخن .. رائحة طعام تحمل من الدفء أضعاف ما تحمل من رغبة في اشباع الجوع، وكأن الأنف قادرة علي تدميرك فقط اذا ما استرجعت رائحة مكان فيسيل لعابك أو حنينك أيهما اكثر وحشة!
استقل سيارة أجرة من محافظة لمحافظة، كان يحمل حقيبة ظهر خفيفة لم يفكر كثيرا فقد حجز اول تذكرة سفر الى مصر كان يبكي وهو يطلب من خدمة الاستعلامات أن تجد له أي مقعد شاغر .. أي مقعد.. كان يحسب الساعات... بالتأكيد لن يتمكن من القاء نظرة الوداع عليها..
بكى قلبه ندما وحسرة علي غربته.. لماذا نتخيل أننا لن نفارق من نحب؟ لماذا نضمن وجودهم كأنهم لا يفنون.. أو لربما لأن الحب يصنع رابطا سحريا علي الانسان فلا نتخل أن له فترة صلاحيه، وأن طائره سيسحبه في رحلة الخلود قريبا!
ركب السيارة بنفس منكسرة وقلب منفطر.. ثلاث ساعات تفصله علي منزل جدته.. شوارع القاهرة ثم الطريق الزراعي الذي يربط محافظته بالقاهرة.. لم يتغير كثيرا، نفس العشوائية، كأن قنبلة نووية ضربت الطريق، كان طريقا جميلا أثناء دراسته تتمدد أراضي خضراء بهية علي جانبي القطار كأن الانسان يسير وسط الجنان.. من الاولى أن يسمونه الطريق ترابي أو الطريق الصخري فلا يوجد أي دليل علي الزراعة علي هذا الطريق..
كان يفكر في والدته.. كيف سيواسيهاّ، أخبره شقيقه أنها منهارة تماما، كان قد اشترى لها ساعة ثمينة قبل عدة أشهر، كان ينتظر اللحظة التي سيضعها حول يدها .. لكنها نساها كما نسى بعض الهدايا الالكترونية التي كان قد احضرها لشقيقيه التوأم.
كانت والدته سيدة صالحة، دائما ما أخبرته أن الله مد في عمر أمها لتنال هي الثواب.. وأن كل يوم تقضيه الأم علي وجه الحياة لهو ثواب مضمون في رصيد الابناء.. ترى أهو أيضا بار بأمه؟ أم أن غربته وانشغاله في دراسته وعمله قبل سنوات أنقص هذا الرصيد؟
تخبره والدته أنها راضية عنه، لكنه غير راضي عن نفسه.. إنه يشعر في كل يوم يمضيه في هذه الحياة بانعدام الرغبة في المواصلة والرغبة في العودة كطفل صغير يلعب أمام باب منزل جدته يدخل ليشرب الماء ويأكل سندويتش ويخرج ليكمل اللعب بملابسه وعرقه..
وصل الى المنزل بعد ثلاث ساعات بالضبط، كان شقيقيه يقفان أمام الباب مع باقي اباء خالاته وابن خاله.. وكان والده يدخن سيجارة علي ناصية الشارع. تمالك نفسه ونزل من السيارة فرآه شقيقاه وهرعا اليه بسرعة..
كان هو الابن الأكبر، والتوأم يصغرانه بأربع سنوات، لكنه دوما ما شعر بأبوته تتفتح أمامهم، احتضنهما كل في ضفة ذراع وانهمر باكيا بحرقة.. لربما من يراهم من بعيد لا يتخيل أن مصابهم سيدة مسنة تخطت التسعين، لكنهم كانوا يبكون عمرا كاملا من الطفولة والحب، يبكون انقضاء العمر سريعا، يبكون أياما لن تعود حين كانوا صبية يلهون في هذا المكان الذي يقفون باكين علي ترابه وهم رجال بقاماتهم الفارعة!
ابتسم وهو يربت علي ظهرهما قائلا: أين أمي؟
قال أحدهما: بالداخل مع خالاتي ..
كاد يطير اليها شوقا فدخل بسرعة حتى أنه نسى والده الواقف من بعيد..
ما ان رأته الأم الملتحفة بالسواد حتى ضربت يدها علي صدرها وهي تنادي باسمه.. انطلق نحوها وجلس علي ركبتيه يقبل يدها وقدمها وهي تحاول أن تمسك رأسه لتنظر الي وجهه وتقبل كل خليه من خلاياه.. انها ابنها البكر وأولى انتصاراتها كأم .. لا يوجد ما هو أقوى من رابطة الأم بابنها البكر، كأنها تكتشف فيه حبا مغايرا لكل أشكال الحب في الحياة، مغايرا لزوجها وابنائها الاخرين.. إنه الرجل الوحيد بعد أبيها الذي قد تفديه بروحها دون أن تفكر لثانية واحدة..
لمحت شحوبا في وجهه، كان يقول لها البقاء لله ياماما.. ذهبت الخير والبركة.. ذهبت الخير والبركة..
وفي وسط دموعها لم تكن تعرف الأم أتتقبل عزاؤه أم تشكر الموت الذي أعاد لها حياتها؟
ابتسمت رغم دموعها وشعرت أنها شاخت ألف عام وقالت له: لم يكن ينقصني غيرك .. كأن جدتك كانت تعرف أنها الوسيلة لأن آراك..
قبل يديها قائلا بسرعة: لا يا أمي .. لا . اقسم انني كنت افكر في العودة آخر هذا العام.. سامحيني يا حبيبتي
مسحت علي شعره الناعم وقبلت رأسه المدفونة في صدرها: انت عمري وحياتي لا تعتذر يا حبيبي .. لا تعتذر أعانك الله في كل خطواتك يا فلذة روحي..
شعر بيد تربت علي ظهره وهو جالس علي ركبته في حضن امه.. تسلل عطر والده المميز ليطيح بما تبقي من مقاومته، فانتصب واقفا ليأخذه الأب بين ذراعيه ويرتب علي ظهره بقوه.. وهنا بكى كما لم يفعل منذ عرف بموت الجدة.. لربما لأن رائحة أبيه أعادته طفلا من جديد.. أو لربما لأنه وجد من يثق أنه أقوى منه، وأكثر حكمة منه.. وأكثر ثباتا ليستند إليه.
استأذن الأب زوجته أن يأخذ ابنه الى الخارج..
خرج الرجلان ليتركا النساء في مواساة حزنهم بالكلام.. ووقفا خارج المنزل ليدخن الأب سيجارة أخرى ويسأل ابنه كأن مصابا لم يكن: حدثني كيف كانت رحلتك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق