الاثنين، يناير 31، 2022

اليوم الرابع: تمثال علي الأريكة

هل هذا هو الموت؟

تفتح ذهني تدريجيا كانقشاع معالم الطريق وسط ضباب الصباح.. شعرت ببرودة في اطرافي.. يديَ وقدميَ.. صدري أيضا بارد كلوح ثلج.. مددت يدي لأتحسسه لكنها لم تبرح مكانها..

حاولت بيدي الأخرى دون جدوى..

انزلت رأسي لأسفل في محاولة لأري يدي نفسها لكنني لم استطع تحريك رأسي..
حالة من السكون المريب اجتاحت جسدي فبات كلوح من الرخام .. صامت كالقبر، بارد.. بارد بشدة.. ثقيل كثقل الليل علي قلب مهموم..
لم يكن هناك أي شيء يتحرك فيّ إلا من عينيّ الاثنين فقط.. 
حتى نفسي بات غريبا.. لم أكن أتنفس كما اعتدت، لم استنشق ولم ازفر.. لكن يبدو أن شيءا سحريا مازال يربطني بالحياة غير الهواء!
كنت أجلس علي متمددا علي أريكتي الحمراء أمام التلفزيون منذ أمس.. استرجعت ذاكرتي ملامح الأمس .. عدت الى المنزل ارتديت منامتي وتناولت الغذاء ثم صنعت طبقا صغيرا من الفشار تناولته أمام التلفزيون ويبدو أنني غفوت قليلا لأستيقظ في هذه الحالة..
لقد تحولت لتمثال!
تمثال..
بات الخاطر مفزعا.. لكنه حقيقة.. بأقصى ما استطيع التقطت عيني أماكن في جسدي. صدري الثابت الذي لا يعلو ويهبط لأنني لا اتنفس.. قدمي تطل من بعيد باردة وثابته كالحجارة..
إنني تمثال! 
لا أعرف أي سحر ضرب المنزل أمس لكن لم يحدث أي غريب أسبح بحمده.. روتيني المعتاد الذي لم يغادرني لخمس سنوات.. 
إنه عقاب إذن.. لقد وقع بي عقاب من السماء.. 
أن أتحول لتمثال صخري ثابت.. لا أمل أن أفعل أي شيء بجسد من الصخر سوى أن يتأمله الآخرون..ليتني غفوت أمس في متحف اللوفر أو في المتحف المصري بجوار اخناتون.. لبتت تحفة فنية في منامتي وسط أجدادي وبعض أبناء العم
كنت أعتقد انني متصالح مع جسدي في الماضي.. بل يمكن القول انني معتد به.. لكن ها هو ثابت كالصخر يبدو قبيحا.. مزريا.. ثقيلا 
يبدو أن هناك بشر خلقوا ليعيشوا بمفردهم وأنا منهم.. لم أحب يوما المشاركة ولا اعتقد أنه بعد أن يفك كربي سأحتاجها .. من سيقبل جسدا بهذا القبح شريكا له في الفراش.. بل من سيقل رجل يتحول بلا سبب الى تمثال مصمت!
هل تصلبت معدتي أيضا؟ قلبي.. من أين استمد الحياة وأنا افكر الآن؟
لوهلة تخيلت أن كل ما أنا فيه حلو وسأفيق منه.. لكن صوت ساعي البريد وصوت هاتفي المستمر وتحرك الشمس لساعات بالخارج جعلوني علي يقين أنني بالفعل تحولت لتمثال صخري..
قررت النوم.. فلربما تحل عقدتي ..ولربما يصبح ألتقي الموت فأنعم بالحياة في الاخرة!


الاثنين، يناير 10، 2022

اليوم الثالث: وطن برائحة الجدة ..

وصل القاهرة وحيدا، لم يتخيل أن يكون زحام فارغ من ملامح أمه وأبيه وشقيقيه هو اول استقبال له بعد غربة دامت خمس سنوات.. لم يتمالك قدميه حين سمع بوفاة جدته.. 

كان يمنى نفسه طوال الغربة برائحة القراقيش المخبوزة في فرنها الأثري، أو قالب من العجة السحرية التي أحب بسببها كل الوجبات النباتية التي تضفي عليها طقسا فريدا بعيدان الفلفل الحار والبصل الأخضر والطحينة.. 
في اوقات كثيرة كان يشم رائحة طعامها حتى أكثر من طعام امه، ربنا لأنه عاش في منزلها نصف حياته تقريبا.. فقد كانت جدته هي أول محطة استقلالية في حياته.. حين كان يبيت معها بحكم قرب منزل والده من مزلها، فيساعدها علي اطعام الدجاج في حديثتها الاستثنائية وسط حي سكني عصري.. وي>هب معها للسوق لشراء كل ما لذ وطاب للأحفاد الذين يحضرون مساء كل خميس او علي زيارات متفرقة خلال الأسبوع.. 
كان يلازمها أغلب الوقت في أيام تعبها فتطلب منه الأم أن يتناوب معها علي المبيت في بيتها لرعايتها في ليال المرض التفرقة، ومع الوقت بدأ يستدرج تفاصيله من بيت والده لبيتها حتى شغر غرفة كاملة أصبحت غرفته.. ومع الوقت أيضا أصبح كل اصدقاءه يزورنه في منزل الجدة.. ويقفون علي ناصية الشارع بعد دروس الثانوية العامة علي بعد خطوات من منزل الجدة.. ويلاقي اصدقاءه في صالون منزل الجدة.. أصبح منزل الجدة منزله وسهره ليال الامتحانات الطويلة في غرفة الصالون الملحقة بالمنزل بباب منفصل ..
لماذا لم يكتب الشعراء معلقات في وصف ما تفعله ذاكرة أنوفنا؟ تلك الذاكرة التي ترتبط برطوبة المكان، ترتبط برائحة البطاطس المقلية وسندوتشات الطعمية بالطماطم في خبز ساخن .. رائحة طعام تحمل من الدفء أضعاف ما تحمل من رغبة في اشباع الجوع، وكأن الأنف قادرة علي تدميرك فقط اذا ما استرجعت رائحة مكان فيسيل لعابك أو حنينك أيهما اكثر وحشة!
استقل سيارة أجرة من محافظة لمحافظة، كان يحمل حقيبة ظهر خفيفة لم يفكر كثيرا فقد حجز اول تذكرة سفر الى مصر كان يبكي وهو يطلب من خدمة الاستعلامات أن تجد له أي مقعد شاغر .. أي مقعد.. كان يحسب الساعات... بالتأكيد لن يتمكن من القاء نظرة الوداع عليها..
بكى قلبه ندما وحسرة علي غربته.. لماذا نتخيل أننا لن نفارق من نحب؟ لماذا نضمن وجودهم كأنهم لا يفنون.. أو لربما لأن الحب يصنع رابطا سحريا علي الانسان فلا نتخل أن له فترة صلاحيه، وأن طائره سيسحبه في رحلة الخلود قريبا!
ركب السيارة بنفس منكسرة وقلب منفطر.. ثلاث ساعات تفصله علي منزل جدته.. شوارع القاهرة ثم الطريق الزراعي الذي يربط محافظته بالقاهرة.. لم يتغير كثيرا، نفس العشوائية، كأن قنبلة نووية ضربت الطريق، كان طريقا جميلا أثناء دراسته تتمدد أراضي خضراء بهية علي جانبي القطار كأن الانسان يسير وسط الجنان.. من الاولى أن يسمونه الطريق ترابي أو الطريق الصخري فلا يوجد أي دليل علي الزراعة علي هذا الطريق.. 
كان يفكر في والدته.. كيف سيواسيهاّ، أخبره شقيقه أنها منهارة تماما، كان قد اشترى لها ساعة ثمينة قبل عدة أشهر، كان ينتظر اللحظة التي سيضعها حول يدها .. لكنها نساها كما نسى بعض الهدايا الالكترونية التي كان قد احضرها لشقيقيه التوأم.
كانت والدته سيدة صالحة، دائما ما أخبرته أن الله مد في عمر أمها لتنال هي الثواب.. وأن كل يوم تقضيه الأم علي وجه الحياة لهو ثواب مضمون في رصيد الابناء.. ترى أهو أيضا بار بأمه؟ أم أن غربته وانشغاله في دراسته وعمله قبل سنوات أنقص هذا الرصيد؟
تخبره والدته أنها راضية عنه، لكنه غير راضي عن نفسه.. إنه يشعر في كل يوم يمضيه في هذه الحياة بانعدام الرغبة في المواصلة والرغبة في العودة كطفل صغير يلعب أمام باب منزل جدته يدخل ليشرب الماء ويأكل سندويتش ويخرج ليكمل اللعب بملابسه وعرقه..
وصل الى المنزل بعد ثلاث ساعات بالضبط، كان شقيقيه يقفان أمام الباب مع باقي اباء خالاته وابن خاله.. وكان والده يدخن سيجارة علي ناصية الشارع. تمالك نفسه ونزل من السيارة فرآه شقيقاه وهرعا اليه بسرعة.. 
كان هو الابن الأكبر، والتوأم يصغرانه بأربع سنوات، لكنه دوما ما شعر بأبوته تتفتح أمامهم، احتضنهما كل في ضفة ذراع وانهمر باكيا بحرقة.. لربما من يراهم من بعيد لا يتخيل أن مصابهم سيدة مسنة تخطت التسعين، لكنهم كانوا يبكون عمرا كاملا من الطفولة والحب، يبكون انقضاء العمر سريعا، يبكون أياما لن تعود حين كانوا صبية يلهون في هذا المكان الذي يقفون باكين علي ترابه وهم رجال بقاماتهم الفارعة!
ابتسم وهو يربت علي ظهرهما قائلا: أين أمي؟
قال أحدهما: بالداخل مع خالاتي .. 
كاد يطير اليها شوقا فدخل بسرعة حتى أنه نسى والده الواقف من بعيد..
ما ان رأته الأم الملتحفة بالسواد حتى ضربت يدها علي صدرها وهي تنادي باسمه.. انطلق نحوها وجلس علي ركبتيه يقبل يدها وقدمها وهي تحاول أن تمسك رأسه لتنظر الي وجهه وتقبل كل خليه من خلاياه.. انها ابنها البكر وأولى انتصاراتها كأم .. لا يوجد ما هو أقوى من رابطة الأم بابنها البكر، كأنها تكتشف فيه حبا مغايرا لكل أشكال الحب في الحياة، مغايرا لزوجها وابنائها الاخرين.. إنه الرجل الوحيد بعد أبيها الذي قد تفديه بروحها دون أن تفكر لثانية واحدة..
لمحت شحوبا في وجهه، كان يقول لها البقاء لله ياماما.. ذهبت الخير والبركة.. ذهبت الخير والبركة..
وفي وسط دموعها لم تكن تعرف الأم أتتقبل عزاؤه أم تشكر الموت الذي أعاد لها حياتها؟
ابتسمت رغم دموعها وشعرت أنها شاخت ألف عام وقالت له: لم يكن ينقصني غيرك .. كأن جدتك كانت تعرف أنها الوسيلة لأن آراك..
قبل يديها قائلا بسرعة: لا يا أمي .. لا . اقسم انني كنت افكر في العودة آخر هذا العام.. سامحيني يا حبيبتي 
مسحت علي شعره الناعم وقبلت رأسه المدفونة في صدرها: انت عمري وحياتي لا تعتذر يا حبيبي .. لا تعتذر أعانك الله في كل خطواتك يا فلذة روحي..
شعر بيد تربت علي ظهره وهو جالس علي ركبته في حضن امه.. تسلل عطر والده المميز ليطيح بما تبقي من مقاومته، فانتصب واقفا ليأخذه الأب بين ذراعيه ويرتب علي ظهره بقوه.. وهنا بكى كما لم يفعل منذ عرف بموت الجدة.. لربما لأن رائحة أبيه أعادته طفلا من جديد.. أو لربما لأنه وجد من يثق أنه أقوى منه، وأكثر حكمة منه.. وأكثر ثباتا ليستند إليه.
استأذن الأب زوجته أن يأخذ ابنه الى الخارج..
خرج الرجلان ليتركا النساء في مواساة حزنهم بالكلام.. ووقفا خارج المنزل ليدخن الأب سيجارة أخرى ويسأل ابنه كأن مصابا لم يكن: حدثني كيف كانت رحلتك؟ 

اليوم الثاني: رجل وحيد في برلين

 مرت عشر سنوات منذ قررت أن أفقد نفسي لأجل الحياة.. 

كانت الخامسة صباحا في نهار مكرر لأكثر من ثلاثة آلاف يوم أو يزيد.. يفتح عينيه كل يوم في الخامسة صباحا.. عادة لم يفارقها منذ كان يقضي خدمته العسكرية.. وقتها عاهد نفسه أن ينضبط في حياته وأن يكون إيجابيا، فقط يأخذ ايجابيات التجربة وينحي سلبياتها .. وكان الاستيقاظ في الرابعة صباحا من كل يوم من أكثر الأمور التي عادت عليه بالنفع في حياته بعد ذلك، فعلى مدار عشر سنوات تأرجح استيقاظه بين الرابعة والخامسة فجرا، حتى بعد انتقاله لبرلين قبل خمس سنوات وبرودة الجو في تلك الساعات الباكرة، فلم يتأخر دقيقة واحدة..

أصبح كروبوت مبرمج مسبقا علي الاتيان بمهام صباحية غاية في التنسيق والتوالي، وحياته في ألمانيا وانتقاله للعيش في بيت صغير مستقل جعلت مهمته أكثر ثباتا.. فيتنقل في ارجاء البيت باتساق لو وضعنا كاميرا وسجلنا يومه كاملا لما أخطأ خطوة واحدة عن اليوم الذي يسبقه أو اليوم الذي يليه!

استيقظ في الخامسة الا خمس دقائق، وضع قدميه في خفين من الفرو الأزرق، دلف الحمام لقضاء حاجته ثم غسل الوجه والأسنان والوضوء مع كريم مرطب خاص بالرجال علي بشرته المبللة ومرطب شفاه.. اوصاه أحد الأصدقاء الذين يقيمون في برلين منذ خمس عشرة سنة أن الطقس البارد يؤثر علي البشرة ولربما بدون المرطب قد تظهر خيوط التجاعيد باكرا! 

إنه لا يخشى التقدم في العمر حقيقة لكنه كان يخشى جدا أن يوحى مظهره لما يخالف عمره قلبه الحقيقية، ورغم بشرته الفاتحةالتي ازدادت شحوبا مع ندرة الشمس فإن شعره الأسود الناعم الذي يصففه بعناية فائقة ويضبط اطرافه بانتظام دون أن تدب فيه ولا شعره بيضاء، منتحته مظهرا شابا خاصة مع ضحكته العالية المتقطعة وغمازته الطفولية بخده الأيسر والتي تصنع ثقفبا بدفعك تلقائيا لأن تمرر اصبعك عليه من عمقه!

مع المرطب والرياضة بالتأكيد سيظل عالقا في شباب دائم، لكن القلب يفضح العمر.. والعين.. تلك المتمردة، عاهرة في فضح النوايا والرغبات!

انهى صلاته سريعا ووضع سجادته في مكانها المجاور بالضبط لطاولة صغيرة بنقوشات افريقية اصطفت عليها معدات القهوة بكل جنسياتها الأمريكية والتركية والايطالية..بالاضافة لعدد من الأكواب المفضلة وتفاصيل أخرى متفرقة..

طحن بعض حبوب القهوة مع ضرسين من الهيل ثم وضع المسحوق في ماكينة القهوة الايطالية دون أن يسقط منه مقدار ذرة، ادار الماكينة ثم توجه الى دولابه لاختيار ملابسه التي يحافظ عليها مكوية ونظيفة..

خمسة قمصان زرقاء وخمسة بتدرجات اللون السماوي وخمسة بتدرجات الكحلي. هل يحب الأزرق حقا!

بدا للوهلة الأولى عاشقا لهذا اللون بقمصانه التي يضعها بهوس حسب تدرج الألوان وستراته المختلفة لكن الحقيقة أنها لطالما عشق اللون الرمادي .. لكنه يخشى علي نفسه الانزلاق في دوامة هذا اللون خوفا من شيخوخة مبكرة!

خلع ملابسه فتسلل برد بسيط الى اطرافه رغم التدفئة المركزية في المكان، وقف أمام المرآة بملابسه الداخلية فقط تأمل صدره العريض الذي يحافظ عليه حليقا وعضلات ذراعه البارزة التي يحافظ عليها بتمارين في المنزل لتعطي ستراته عرضا مميزا .. تحسس ذقنه الحليقة ورقبته، كين يعرف جيدا أنه يملك جسدا متساقا تماما مثل دولابه وملابسه وحياته.. كان شعره مبللا بعض الشيء من الوضوء فمرر أصابعه بين خصلات شعره السوداء كأنه يحاول أن يظهر بمظهر غير مكترث.. شخص بوهيمي  فنان عشوائي.. 

بدا فاتنا بملامحه التي يم يغادرها النوم بعد

تخيل تلك الفتاة في منزله.. ترتدي إحدى قمصانه الزرقاء علي جسدها العاري بعد معركة الحب ليلا، سرت إثارة في جسده افاقه منها صوت ماكينة القهوة..

خلع فانيلته الداخلية كأنه يمنح لفتاته مساحة أوسع لتتسلل الى منزله 

وضع قالبا من السكر في قهوته التي يحبها سوداء بدون أي اضافات فتخيل قبلات علي ظهره وخصلات شعر ناعمة تداعبه، ويدان ناعمتان صغيران تمران عبر خصره في دلال

زفر بضيق وهو يقلب القهوة، دون أن تغادر فتاته الغامضة، تظهر له دوما منذ خمس سنوات، إنها نتاج البرد والوحدة والغربة!

لكنه في الواقع كان يتلذذ بالخيال أكثر من الواقع! تعشقه فتاة ألمانية عشقا حقيقيا، تبادل معها القبلات أمام باب منزلها، كاد يجن حين تسللت أناملها داخل قميصه وداعبت حلماته وهي تعض شفتيه .. لكنه أبعدها بمعجزة قائلا إنه لن يتمكن من الذهاب أبعد من ذلك!

ذهلت الفتاة وتجنبته فترة طويلة، فما أبغض ان ترفض المرأة حتى لو كانت من أكثر بلدان الأرض انفتاحا وحرية! 

لكنها عادت بعد عدة أشهر لتستدرجه .. ظلت تحاول حتى بدأت تستمتع أكثر بطعم القبلات أمام باب منزلها أو علي الرصيف. 

كانت تعرف أن اختلاف الدين قد يقف عائقا أمام علاقتهما لكنها لم تكن لتقاوم هذا الشعر الفاحم وهذا الصدر وهذا الاتساق المثير..

أحيانا يتخيل فتاته ألمانية وأحيانا أخرى يراحا بملامح مربكة، سمراء  رفيعة بشهر أسود في أوقات وأشقر في وقات أخرى.. كان يعشق النساء بالشعر الطويل.. لكن مرت خمس سنوات دون أن يدخل أي مؤنث هذه الغرفة شديدة الترتيب!

ماذا لو كانت فتاته فوضوية، تملك تفاصيل لن يتسعها المنزل! 

ماذا لو غيرت له الأثاث والأدوات؟ يعرف أن النساء يجببن ترك بصمة من الجمال في المكان والجسد.. ماذا لو وضعه له باقة من الزهور علي المائدة؟ تترك الزهور حتى تذبل وترميها في القمامة! إنه يكره الزهور بسبب نهايتها التعيسة..

ماذا لو غيرت له مكان ماكينة القهوة؟ وجاورت ملابسها ملابسه.. وتبعثرت أدواتها وزينتها وتفاصيلها الدقيقة وحبوب الافطار والشوفان والحليب والدقيق علي رخامة مطبخه الصغير؟

هل سيحب ذلك!!

إنه بارع في طرد النساء بتخيل تفاصيلهن اليومية، يكفيه حقا تطاير نيرانه علي فتاته الألمانية، يكفيه اشتهائها له.. كإبقاء الحب عند مرحلة الغلبان دون أن تخمد حرائقه!

ارتدى ملابسه علي عجل ورتب شعره بعناية فائقة ووضع عطر برائحة الصندل والليمون وحذاء جلدي بلون قشرة البندق، وخرج من المنزل في تمام السادسة ليبدأ يوما جديدا في الألف الرابعة من نغمة لم يغرد خارج ايقاعها بعد!

الأربعاء، يناير 05، 2022

اليوم الأول- في انتظار الرفيقة

 حين وصفت لي المكان لم أتخيل أن يكون مثل مغارة علي بابا.. كتل خرسانية مترامية الاطراف .. عدد مهول من الكباري العالية التي تربط بين دفتي مكانين لا ملامح لهما.. 

لا يمكن أبدا أبدا أن تصف لأحد أين تقف.. فلا يوجد لافتة أو معلم اللهم إلا من شجرة تقف علي استحياء ولافتة هدء السرعة!

كان لدي طموحات عالية حين وصلت القاهرة، لا أعرف أهي أقرب لخيالات شخص يعيش بخيال طفولي.. حين نتصور أن الحياة تمطر الجيلي .. والشوارع تكتسي باللون الوردي والأشجار كحلوى القطن اللذيذة!

نحن نعرف المدن من الصور وحكايات العابرين التي تمتزح فيها خيالاتهم بواقع المكان.. لكن المكان لا وجود له.. إنه قطعة مبهمة لا روح لها..  يجب أن يمر عليها شخص.. ويلتقمها قلب أنسان أو تأطرها العين..

لكن المكان الحقيقي ما هو إلا رمال تأخذ أشكالا متفرقة.. ناعمة أحيانا.. أو خرسانية أحيانا أخرى.. المهم أنها حبات رمال.. رمال فقط..

وفي هذه البقعة الغريبة من القاهرة وعلي جانب طريق سريع يصل بين محافظات متفرقة نزلت من سيارة أجرة أخذت أجرا مبالغا فيه .. وقفت محاولا ايجاد مظلة أحتمي بها من شمس حارقة في ديسمبر.. وبردوة لا اعرف من أين مصدرها.. كأنها تخرج من مسام الأرض.. تلامس قدميَ وتتسلل الى كل خلية في حسدي.. فبتت أقف برأسي يذوب حراً وجسد يرتعد بردا!

وقفت انتظر في طريق للسيارات يفصل بين منطقتين سكنتين لهما نفس الطابع.. كأن الطريق شق المباني كما شقت عصا موسى البحر.. أو كأنه وجد هنا بمحض الصدفة!

 العمارات تشبه الرمال أيضا بألوانها المتدرجة من البرتقالي للبني للأصفر .. 

شرفات متطابقة.. كأن كل السكان أخذوا علي انفسهم عهدا بألا يضعوا أي شيء يعبر عن هوياتهم أو ألونهم المفضلة!!!

لماذا نرى بهجة في تنوع الألوان واختلافها؟ أعتقد أن للسيميترية جمال أيضا إذا ما كانت علي مساحة واسعة..فجمال السماء أنها زرقاء. فقط.. وجمال البحر أنه أزرق وأخضر وأسود..

المهم انه متسق وله لون واحد..

مرت سيارة خاطفة أمامي الآن.. يبدو أنني سأنتظر طويلا..

بحثت بعيني فلم أجد مكانا ارتكن فيه.. باتت لي محطة بنزين من بعيد.. أعشق محطات البنزين..لاأعرف لماذا تستهويني حتى قبل أن أملك سيارة.. كنت أشعر أنها كاستراحة المحارب للتزود بالوقود والقهوة والوقت.. 

لو ملكت حبيبة لمنحتها قبلة داخل كل محطة بنزين أقف فيها علي الطرق النائية.. كم عشقت أن أجوب طرقا وعرة وبرية مع حبيبتي.. 

أي واحدة؟

واحدة فقط.. لم يكن قبلها ولا بعدها أحد!

قررت المشي للمحطة، ولكن بسذاجة غريب لم أحسب حساب قرار عبور الشارع.. بدت لي الآخرة تلوح علي الجانب الاخر من الطريٌ.. ميف لي أن أعبر طريقا تقطعه سيارات فارهة تتخطى سرعتها المائة وستين كيلومترا في الساعة؟ 

مرت إحدى السيارات من جنبي.. كدت أن أطير!

وقفت حائرا وبدت لي علامة ماكدونالدر ودانكن دوناتس تلوح من بعيد كإمراة في ملابس مثيرة تغوي شابا قرويا.. كنت أنا هذا القروي وبدت لي القهوة مثيرة جدا من بعيد..لا أطول رائحتها ولا مذاقها.. لماذا تبدو الأمور أكثر روعة من بعيد؟

لماذا تبدو مغرية.. ثرية..

كدت أموت حرفيا لأشرب فنجانا من القهوة.. لكن بحسابات الانسان العاقل كان من المستحيل عبور الجانب الآخر من الطريق .

بدت لي القاهرة- أو لان أكثر دقة- هذا الحي وهذه المنطقة السكنية بالذات وكأنها وقعت من القضاء الى قلب الصحراء .. كأنها نبتت خصيصا لبشر يعيشون داخل جدران ولا يملكون أدنى رغبة للخروج أو التريض أو حتى للمشية البريئة علي جانب الطريق.. كأن المدرينة برمتها خلقت لأصحاب السيارات فقط، وكأن البشر اختاروا الاختباء كالفئران داخل قوالب خراسانية خوفا من حرارة السماء وبرد الأرض..

ترى، كيف هي درجة حرارة البيوت داخل هذه المباني الكثيرة؟

اخترق اذني صوت سيارة مرت بجانبي.. عدت للورا بغريزة البقاء .. لم استوعب في البداية أن السيارة تضيء اشاراتها الخفية، ثم وقفت علي بعد خطوات مني، لم انتبه لكن عيني التقطتا أرقاما انجليزية صيرة علي لوحة السيارة، عادت ذاكرتي تدريجيا فلمحت يدا تخرج من الشباك الأمامي وتشير لي أن أتقدم نحو السائق وتبع الإشارة صوت آلة تنبيه

أخرجت مفكرة سوداء من جيبي وقرأت حروف سيارة صديقتي المصرية، إنها نفس حروف السيارة التي امامي .. أخيرا جاء مركل انقاذي من هذا الشارع الموحش، ترجلت بحذر للباب المجاور للسائق وفتحت الباب..

استقبلتني امرأة مصرية ناعمة ودافئة، كانت بشعر أسود قصير ونهد لم تخطئ عيناي الطريق إليه، فقد كان بارزا، جميلا، شامخا.. يتناسب بدقة بالغة مع انسدال خصرها وارتفاع عنقها .. بدت مذهلة كمنحوتة تحولت لبشر..

تسللت رائحة القهوة الى أنفي كأنها تعرف مسبقا كل نقاط ضعفي 

جلست بجانب ابتسامتها فنسيت العمارات الصفراء، والشوارع المرعبة!

جود الحياة

 اظن انه حان الوقت لأكتب عن أجمل شئ حصل في حياتي كلها .. أن يمنحني الله فتاة!  جود اسميتها جود، لأنها كرم كبير من الله، ولأنني استحضرت اسمها...