لكن ولسنوات طويلة بدأت أراقب أنواعي المفضلة من الموسيقي، واكتشفت أنها يجب أن تملك روتينا في الحكي.. يجب أن تكون مرتبة ولها تتبع تذكره الأذن.. لم أحب يوما شوبن في حد ذاته ولا موتزارت.. إنهم صاخبين بالنسبة لي كثيرا.. لكن مقطوعة الربيع ومقطوعته الليلة يذيباني في كل مرة أسمعهما
أما جابريل فوريه فقد تربع علي عرض قلبي منذ أفردت له فصلا في سبتمبر .. إنه من أفضل المؤلفين علي الإطلاق في نظري مقطوعته صقلية بارعة للغاية.. إنه يحكي قصة ما لربما زيارة لصقلية .. ربما .. لكن كيف يحكي الانسان بالموسيقى؟
في بعض الأحيان النادرة انتهز فرصة وجودي في المكتب صباحا قبل الجميع لأشرب قهوة بدون سكر واستمع الى بعض الموسيقي قبل الاجتماع الصباحي .. كأنني أوخز قلبي ليستيقظ من سباته غير المفهوم أو كأنني أذكر نفسي أن هذه الأماكن ليست هي الأماكن التي انتمى إليها.. وحين أعود للصخب .. اندمج.. نعم اندمج بشدة .. لكن اندماجي لا يعني ولم يعن يوما انتمائي.. إنها تقنيتي الخالدة للاستمرار!
ماذا لومنحني القدر نفحة ساحرة وخيرني أن أعيش في مشهد واحد فقط ثم أموت؟
مشهد واحد بعيد عن العواطف الأخرى.. عن عاطفتي كزوجة عن عاطفتي كأم.. مشهد مصنوع لي أنا فقط بعيدا عن كل أدواري العاطفية والاجتماعية.. مصنوع لأمنية قبل أن تكون أي شئ ودون أن تكون أي شئ مشهد يجردني من كل مشاعري وآثامي بل وحسناتي.
في الماضي كنت لأختار جبل شاهق أمضي ليلة في أحضانه فأشعر بضآلتي وسط الكون لتسكن هواجسي... أنام علي ظهري وأعد النجوم مساء ثم أذوب مع تدرجات السماء فوقي وهي تفيق من سباتها حتى يأتي الصباح..
لكن اليوم..وعلي غير المألوف في نفسي فأنا أشتاق لشاطئ كاريبي قبل أن يتدمر العالم بفعل التغير المناخي.. أريد أن أقضي ليلة واحدة .. ليلة تحت جذع نخلة برية وشاطئ يقابل المحيط اتمدد علي حافته فأتبلل من أمواجه.. أعتقد وقتها أننا سأخلع كل ملابسي دون أن أفكر ثانية واحدة وسأجلس عارية تماما أسفل تلك النخلة .. لا أريد أن يشغل بالي أي شئ ولا أي شخص.. أريد أن أكون مثل تلك النخلة فوقي والبحر أمامي والرمال تحتي جزء من هذا الكون فقط امرأة بلا أي ألقاب بلا ماضي وغير راغبة في الغد .. بعدها سأعود للوراء وأجلس علي جزء جاف من الرمال وسأمسك بجذع صغير وسأكتب .. سأكتب أي شئ يخطر علي بالي.. ربما خاطرة من خواطري القديمة.. ربما أمنية.. بعدها وعند بلوغ الليل.. سأمضي ليلة حافلة وأنا أرقص.. سأرقص حتى تتورم قدمي وتتبلل ملابسي من العرق ويخفق قلبي بسىرعة من الإجهاد.. إن آلام الشيخوخة التي تحاصرني تهذه الأيام لا ولم تلائمني أبدا .. أملك روحا قديمة لكنها أقرب لأرواح السحرة منها للعجائز.. بعدها..
بعد الرقص ماذا سأفعل ؟؟
ربما سأرتدي فستانا طويلا من الساتان الأسود وأتعطر بماكسمارا ثم أعود للبحر مرة أخرى..وقتها سأملك حرية شرب القهوة مساء دون القلق من النوم أو الاستيقاظ..دون أن أفكر في عمل صباحي أو مزاج غير معتدل مع الاطفال..وقتها سأشرب القهوة مساء كما اعتدت سأسير ببطئ شديد علي حافة البحر وأراقب عناقه الرمال علي ضوء القمر .. كم أعشق هذا المشهد.. كم أذوب فيه! حين يتخلل الموج ذرات الرمال الساكنة ثم يسحبها هوينا لأحضانه..ويعود ليكرر هذا الفعل مرة أخرى وأخرى وأخرى... لم يكل البحر يوما هذا الفعل ولن يكل... إنه في نظري أبرع عاشق في الطبيعة!
سأنهي قهوتي ثم أتمدد مرة أخرى علي الشاطئ لأحصي النجوم.. رأيت آلاف النجوم أكثر من مرة في السماء فوق الصحراء ..لكنني لم أرها يوما فوق البحر.. سأحصي النجوم كعاشقة يقتلها الملل حتى يعود حبيبها..لكن في هذه اللحظة سأحصي النجوم دون انتظار حبيب ودون أن يحاصرني الملل..سأفعل هذا لأستمع مرة أخرى إلى صوت قلبي.. ولأفض اشتباكات روحي..وأعيد الدماء لجسدي .. وأوقظ خيالي..وأهدء من روع قلقي..وأروي روحي التي تشتاق حقا وحقا .. لأن تحصي النجوم فوق بحر كاريبي في ليلة هادئة!