أحيانا أتسائل.. أيهما أكثر حقيقة من الآخر، أنا أم أنا؟
كل منهما يشير لطبقة رفيعة من روحي .. أحب كلاهما.. لكن ..
لماذا تفزع مني الكلمات كلما حاولت كتابتها؟
اقول لنفسي لأنني أعاند رغباتي الحقيقية.. ولأنني لا استطيع قول الحقيقة في وجوه من آذوني وتركوا ندوبا في روحي.. ولأنني لا أقوى علي مفارقة أبنائي .. ولأنني متقلبة المزاج حتى لو بدوت من الخارج ككرة من الثلج أو عامود مم الصلب .. فأنا وحدي من أكبح جماح تقلباتي .. فلا ذنب لأحد أن يتأرجح علي حواف أمزجتي الكثيرة المضطربة.. ادركت هذه الحكمة حين أنجبت نديم.. حكمة التحكم في الذات لأجل الآخر.
أشتاق كثيرا أن اتصارع معه.. أن أصرخ في وجهه وأثور وأغضب وأترك له المكان لأي مكان.. اشتاق كثيرا كثيرا لأن تفلت أعصابي وأجن.. نعم أشتاق لأن أجن.. لأن أكون متهورة ومؤذية .. لأن أبتلع من أمامي بعواصفي الرعدية وبرقي المؤلم وأمطاري الجنونية.. لكنني ووسط كل هذه الفوضى التي تعتمل بداخلي.. أصبحت لا أقول إلا القليل.. ولا أظهر إلا القليل.. ويبدو أن حتى القليل لا يعجب شخصا بثلجيته.. هو اختبر ثوراتي من قبل.. كنت ابتلع مهدئات عصبية ومضادات اكتئاب بدون حساب لكنني بعد ذلك، قطعت وعدا أن أبقي ما بيننا بيننا.. لكن هذا الأمر أصبح يفوق طاقتي.. وكأنني كل يوم من أيام حياتي أقول لنفسي: " أنا امرأة صالحة يجب أن أكون مثالية" المثير للشفقة أن ما أعتبره أنا مثالية أيضا لا يثير اعجابه.. وأخاطب نفسي مرة أخرى: " ماذا لو طاحت عفويتي بتماثيلي الرملية" لكن للأسف.. فات الأوان.. فات تماما !
إن كبح جماح حقيقتا لهو أمر محمود.. لكن يجب أن يكون هناك مساحة للجنون.. وأنا مساحتي الكتابة.. لكنها لم تعد تكفيني.. لم تعد تشبعني .. بل لم يعد شئ في الحياة يشبعني كأنني اريد أن ابتلع الكون في لقمة واحدة.. شراهة غير محسوبة العواقب لكل المخاطر ..
كيف مضى العمر بكل هذه السرعة؟
سرعة! أي سرعة؟ ياللي من بغبغاء!
لقد دهسني دهسا.. لم يكن في الأمر سرعة علي الأطلاق.. بل كان العمر يتلذذ في كل لحظة بترك ندبة في مكان ما .. حتى فرغ جسدي فالتفت الى روحي.. وهنا أذكر الموت كثيرا.. أذكره كمن صعد سلالم المزلقة وها هو يستعد للتزحلق الى النهاية..
أؤجل النهاية.. لكنها حتمية.. وهنا تزداد كآبتي لأنني لم أفعل بعد ما عشت عمري كله أحلم به.. وهي أحلام تدغدغ الحواس كانبساط نهايات النساء .. أفعال تستثار بفعل رغبات عميقة بالمتعة الحسية.. والمتع الحسية .. متع تعذبني بالكامل..رائحة الهواء.. نجوم الصحاري .. العطور.. كلمات الغزل.. الأجساد العارية علي الرمال.. قبلات الأذن وملامسة الأقراط للعنق.. نظرات الليل التي تشع فيها عيوننا بريقا غريبا كنافذة تطل علي الروح مباشرة.. القصائد المكتوبة بخط اليد.. انسيابة حرف بعينه.. والرسائل.. يالعذاب قلبي من الرسائل! الرسائل الكثيرة.. الرسائل النصية القصيرة وسط زخم الحياة.. والرسائل الطويلة المكتوبة بعذوبة روائي ونعومة شاعر ودقة باحث.. تلك الرسائل التي نصنع لأجلها قدحا من الشاي ونجلس بمجاورة نافذة قبيل انبثاق الفجر..فنرى النور يتفتح هوينا منزلقا علي الزجاج فتتفح أنفسنا مع كل حرف وكلمة وجملة وسطر وأسطر وأوراق.. تتفح وتنكب علي الورق فلا ندري ايهما يحمل الحقيقة كاملة نحن حين نتجسد في أجساد أم نحن حين نتجسد في كلمات؟ والكلمات لا تخلق إلا علي أعتبا شخص واحد فقط.. شخص واحد هو الذي يملك مفتاحا لصندوقنا السحري.. مفتاح لا يمكن أن نعيد استنساخه.. هي نسخة واحدة وقفل واحد.. وحين يتوه المفتاح نظل طوال حياتنا نلهث بحثا عنه.. ومن خبرتي في الحياة أنها مجرد رحلة للبحث عن هذا المفتاح! يالشقاء!
إنني وسط كل ما يثور في العالم من حروب وغلاء وهلع لا أتذكر إلا القليل .. ما يفجعني هو مشهد النهاية في فيلم Atonement كلما تذكرته تثور نفسي ألما مع مشاهد أخرى من حياتي الواقعية.. كنت أرى في الماضي أن الحياة يجب أن نعيشها وسط مقطوعة .. كأننا فيديو مصور أو خلفية مصورة لموسيقى .. الموسيقى هي الحياة.. الموسيقى هي العصاة السحرية التي تفتح دروبنا الحقيقية.. كم أعشق هذا المشهد الذي كتبته بكل رومانسية بين عمرو وخلود في الأوتوبيس وهما ذاهبان إلى أسوان حين كانت تستمع إلى رحمانينوف وجاورها واستمعا معا إلى هذه المقطوعة الساحرة.. حاولت مرارا أن أجسد الموسيقى في مشاهد كتابية لكن لا أعتقد أنني نجحت حتى الآن.. سيبقى مشهدي الخالد لم يكتب بعد.. لربما لأنه لم يخلق بعد؟
هل من العيب أن تتحدث النساء عن رغباتهن؟ لا ليس عيبا لأن رغباتهن لم تحمل يوما طابعا جنسيا أو مشينا حتى أكثرنا رعونة.. لكن العيب في نظري أن يسود الصمت بعد أن نجهر بهذه الرغبات! تعتقد النساء خطأ أنها حين تخضع لرغبات حبيبها فهي بهذا تمنحه عربونا من المحبة كدليل علي التفاني والعطاء والوجود وليكون هذا العربون مقدمة لما تود هي البوح به .. وحين تقرر البوح تجد شخصا اعتاد الأخذ والعطاء بطريقته هو لا بطريقتها هي .. وتبدأ من هذه النقطة الرحلة السرمدية التي يعشقها الرجال وهم يصفون النساء بأنهن معقدات وعسرات المزاج ومستعصيات علي الفهم .. علي الرغم من أنني أراهن أن كل رجل ممن ضحك يوما ساخرا من طبيعة النساء العجيبة في نظره، قد أخبرته رفيقته بكل وضوح وصراحة ما تريد بدون مواربة أو احتمال للتأويل! لكن هذه النظريات عن النساء هي وسيلته في التملص من العطاء الشعوري.. وكأن عورة الرجل في لسانه فيشعر أن الكلمات المنطوقة من الغزل المستمر والمتدفق هي أكثر الأمور المستعصية في الحياة! لا أرى أي سبب آخر سوى أن الرجال ينشأون بطريقة غير مفهومة.. أو ربما لأن الرجال غير بارعين في الكاتابات الشاعرية العميقة عن النفس والحب فنشأت أجيال وتوالت دون أن نقرأ بعمق ما يجول في نفس الرجال حقا.. وإن اتفق الجميع علي ارتباط الحب في نظر الرجل بالجنس فهذا في نظري ملاذ آمن لهم ذلك لأن الحب المنطوق يفضح أكثر من الحب المفعول لكن من الزهو أن ترتبط القوة بالفعل حتى لو كانت القوة الحقيقة في القول وليس الفعل!
ربما اكون مخطئة.. ربما أدقق في الأمور أكثر مما يجب .. لكن ها هما ولداي .. صبيان في جمال زهور الربيع حين تتفتح .. شقيان وحنونان.. اختبر معهما الرجولة منذ نعومة أظافرها.. ولا أرى سوى الهشاشة والرغبة المتعطشة للحب.. الحب الذي لا ولن أبخل عليهم به أبدا.. حين جعلت من كلمة "أحبك" كلمة رسمية في المنزل بدا الأمر جميلا حين أصبحت مبادلتها بيننا هي العملة الرسمية لمشاعرنا.. "وأنا كمان بحبك يا ماما" تقال كاملة .. تقال ونحن نحتضن بعضنا البعض.. أن أجعل الصبية شاعريين ورومانسيين وبأبدان وعقول قوية وفطنة لهو أسمى أهدافي.. أن يستمتعوا بشبابهم ويجدون مرادفات لما تشعر به قلوبهم ..فينطقون هذه المشاعر علي ألسنتهم دون خوف أو خجل أو مواربة..في نظري هذه هي قوة الرجل بلا ادنى شك!
متى ستعود كلماتي تتدفق؟ متى سأنهي ما بدأت.. متى سأستمتع بنشوة نقطة النهاية؟ وتذييل بتاريخ اذكره للأبد..متى؟